الاخبارية مباشرثقافة ومنوعات

عادات شامية …. عادة الصُبحة من مدينة الرقة

الاخبارية مباشر

عادات شامية …. عادة الصُبحة من مدينة الرقة

 

نجاة احمد الاسعد 

 

مساء يعبق برائحة الأصالة، ويأخذنا اليوم إلى واحدة من مدن الفرات الجميلة، مدينةٍ لها في القلب مكانة، وفي التاريخ بصمة، إنها الرقة… مدينة النخيل والنهر، والعادات العريقة التي نسجت عبر السنين قصصًا من الفرح والتآلف والمحبة.

في الرقة، لم تكن الأعراس مجرد مناسبة عابرة، بل كانت حدثًا ينتظره الجميع، يتشاركون فيه الفرح كما لو أنه عرس الحي بأكمله.

ومن بين تلك العادات القديمة التي كانت تميز أعراس الرقة، عادة جميلة تُعرف باسم “الصُبحة”.

قد لا يعرفها الكثير من أبناء الجيل الجديد، لكنها كانت يومًا ما من أجمل مظاهر الكرم والفرح في بيوت أهل الفرات.

 

الصُبحة… اسمها مأخوذ من الصباح، لأنها تبدأ منذ ساعات الصباح الأولى. وهي وليمة تقام يوم الزفاف على نفقة أهل العريس، يدعون إليها الأقارب والأصدقاء والجيران، يجتمعون حول مائدة واحدة ليشاركوا العريس فرحته، في جوّ من الألفة والمودة.

ولم تكن الصُبحة مجرد طعامٍ يُقدَّم، بل كانت مناسبة اجتماعية تعبّر عن كرم أهل العريس، وعن الترابط الذي يجمع أهل الحي.

كان الرجال يتعاونون في ذبح الأغنام وتجهيز اللحم، والنساء يقمن بإعداد الثريد أو التشريب، تلك الأكلة العربية العريقة التي تفوح منها رائحة السمن العربي والدسم، وتُسكب في صوانٍ كبيرة مفروشة بخبز الصاج، لتُقدّم للضيوف الذين يجتمعون من كل بيت.

 

يُقال إن الوليمة لا تكتمل إلا إذا فاض الطعام عن الحاجة، فزيادة الأكل دليل على الكرم. وكان الناس يتباهون بحسن الضيافة، لا بالمظاهر أو المال، بل بالمحبة الصافية التي تجمع القلوب.

 

وفي أثناء الصُبحة، تتعالى الزغاريد، وتُقدّم الهدايا للعروسين، ويتبادل الناس التهاني. وتتحول المناسبة إلى مهرجان من الفرح الشعبي الأصيل.

 

ولأن أهل الرقة عشّاق للفرس والفروسية، كان للزفاف أيضًا طقوس لا تُنسى.

تُزف العروس عند العصر، يرافقها موكب من الخيل والجمال، يتقدمه “الهودج” الذي تجلس فيه العروس. أما الفرسان الشباب، فينطلقون بخيولهم يلوّحون برماحهم، يرقصون على صهوات الخيل في عرضٍ يسمّى “طُرّاد الخيل”.

تتعالى أصوات الأغاني الشعبية، والزغاريد تملأ الأجواء، ويعمّ الفرح البيوت والطرقات.

 

كانت هذه الطقوس تعبّر عن روح الجماعة، عن الفرح الذي لا يخصّ شخصين فقط، بل مدينةً بأكملها.

فكل بيت يشارك في التحضير، وكل امرأة تُعد طبقًا، وكل رجل يقدّم يد العون.

كانت الأعراس تُقام ببساطة لكنها تحمل قيمة عميقة: أن الفرح الحقيقي يُصنع بالناس، لا بالأموال أو القاعات.

 

ومع مرور الزمن، ومع تسارع الحياة وتطورها، بدأت هذه العادات الجميلة تتراجع شيئًا فشيئًا.

أصبحت الأعراس تُقام في صالاتٍ حديثة، تُختصر فيها الطقوس لتوفير الوقت والمال.

وبدل أن يجتمع الحي كله، صار الحفل محصورًا بالأقارب المقربين فقط.

تغيّر شكل الفرح، وتغيّرت تفاصيله، لكن ذكريات الصُبحة لا تزال تعيش في ذاكرة الكبار، كرمزٍ للكرم والتآلف الذي ميّز أهل الرقة.

 

ويقول كبار السن إن الفارق بين الأمس واليوم لا يُقاس فقط بالزمان، بل بالروح التي كانت تملأ تلك الأيام.

في الماضي، لم يكن أحد يشعر بالغربة بين جيرانه.

كانوا يتقاسمون اللقمة والفرح والوقت.

أما اليوم، ومع تغيّر نمط الحياة، أصبح الناس أكثر انشغالًا وأقل تواصلاً، حتى صارت بعض العادات القديمة مجرد ذكريات تُروى للأجيال الجديدة.

 

لكن رغم كل هذا التغيّر، ما زالت بعض القرى والبلدات في ريف الرقة متمسكة بهذه التقاليد.

ما زالوا يقيمون الصُبحة، ويقدّمون الثريد في الولائم، ويحافظون على “طرّاد الخيل”، ولو بشكل رمزي.

إنهم يدركون أن هذه الطقوس ليست مجرد عادة، بل هي هوية، وجزء من تاريخهم الاجتماعي والثقافي.

 

فالتراث يا أصدقائي، ليس شيئًا نحفظه في الكتب فقط، بل هو ما نعيشه ونتوارثه جيلاً بعد جيل.

إنه الذاكرة الحيّة التي تمنح المجتمع طابعه الخاص، وتجعل كل مدينة مختلفة عن الأخرى.

وحين نفقد هذه العادات، نفقد معها جزءًا من ذاكرتنا الجماعية وجمالنا الإنساني.

 

فلنحاول أن نحافظ على ما تبقّى من تراثنا الجميل…

أن نحدّثه دون أن ننساه، أن نجعله يعيش في حاضرنا لا في الماضي فقط.

ففي كل وليمة من وليمة الصُبحة، وفي كل زفّة خيل، وفي كل صوت زغرودةٍ يملأ السماء، هناك حكاية عن الفرح والكرم والتواصل الإنساني الذي لطالما ميّز أبناء الفرات.

https://fb.watch/D0Kw4vO00h/

كانت هذه رحلة قصيرة عبر الزمن، عدنا فيها إلى أيام البساطة والفرح الحقيقي، إلى زمنٍ كانت فيه العادات تصنع الدفء بين الناس، وكانت الأفراح تجمع القلوب قبل أن تجمع الأجساد .

تابعونا على الفيسبوك

https://www.facebook.com/share/1QBkEEktRj/

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى