Culture and varieties

عادات شامية…….استقبال النسوان

Saudi Arabian News

عادات شامية…….استقبال النسوان

 

متابعة نجاة احمد الاسعد

 

 نصحبكم اليوم في رحلة إلى قلب بيوت الشام القديمة، لنستعيد معاً واحدة من العادات الاجتماعية الجميلة التي كادت أن تختفي من حياتنا، لكنها ما زالت محفوظة في ذاكرة الأمهات والجدّات… إنها عادة “استقبال النسوان”.

كان للنساء في بلاد الشام موعد ثابت كل شهر، يتناوبن فيه على الاجتماع في بيت إحداهن. هذه الجلسة لم تكن عادية أبداً، بل كانت بمثابة عيد صغير… بيت يُفتح على الفرح، وضحكات تملأ الأرجاء، وروائح الأكلات الشامية تعبق في المكان. كل امرأة تحضر طبقاً مميزاً: صينية كنافة، أو معمولاً بالعجوة، أو يبرق ملفوفاً بورق العنب… والكل يتفنن في إبراز مهارته في الطبخ والضيافة.

 

في البيوت الدمشقية القديمة، كان الاستقبال يتم غالباً في “القاعة” أو “الإيوان”، وهما أجمل ما في البيت. تتلألأ فيهما النقوش والمقرنصات، وتُفرش الأرض بالسجاد الدمشقي الفاخر، وتُرتب الوسائد الكبيرة على الجوانب لجلوس النسوان براحة. أما اللباس فكان جزءاً أساسياً من المشهد. كل سيدة تختار أجمل ثيابها: عباءة مطرزة بخيوط ذهبية، أو ملساً حريرياً يلمع تحت الضوء. وتُكمل زينتها بالذهب والفضة: أساور تطنطن مع الحركات، خواتم وخلاخيل، ولا ننسى الحناء التي تُزيَّن بها الأيدي والشعر فتضفي لمسة من البهجة والاحتفال.

ولم يكن الاستقبال مجرد جلسة للتزين والمأكولات، بل كان له بُعد اجتماعي عميق. النساء كنّ يصطحبن معهن بناتهن الصبايا ليُعرّفنهن على الحاضرات، فتكون فرصة للخطبة واختيار العرسان بطريقة غير مباشرة. جلسة تبدو عادية، لكنها كانت أشبه بمعرض اجتماعي تُعرض فيه البنات وتُتبادل فيه كلمات المديح عن جمالهن ولباقتهن. وفي الوقت نفسه كان الاستقبال مسرحاً للتفاخر الهادئ: من قدمت أشهى الأطباق؟ من لبست أجمل ثوب؟ من زيّنت نفسها بأكثر الذهب؟ فالمائدة العامرة والثياب المطرزة كانت وسيلة للتعبير عن المكانة الاجتماعية للعائلة.

 

وللضيافة طقوسها الخاصة أيضاً، فلا يكتمل الاستقبال إلا بفناجين القهوة العربية المرة التي تُقدَّم أولاً احتراماً للضيفات، ثم يليها الشاي مع الحلويات. كانت القهوة رمزاً للأصالة والكرم، والشاي مناسبة لإطالة الجلسة وإثرائها بالحديث. وأحياناً كان اللقاء يتضمن ألعاباً شعبية مثل الأحاجي أو الحزازير، حيث تتسابق النساء على الحل وتعمّ الضحكات. وفي أحيان أخرى تتحول الجلسة إلى حفلة صغيرة: موشحات شامية، أهازيج، دفوف، تصفيق وزغاريد، والبنات يرقصن بخجل بينما النسوة يشاركن بالغناء، فتغدو الجلسة سهرة عامرة بالفرح.

 

وبين الضحك والطعام، لم يخلُ الاستقبال من النميمة، التي كانت تُعتبر “بهارات الجلسة”. أخبار الجيران، حكايات البيوت، قصص تُروى وتُبالغ حتى تصبح مادة للتسلية والضحك. قد يعتبرها البعض عادة سلبية، لكنها كانت في ذلك الوقت جزءاً من التواصل وتبادل الأخبار. أما من الناحية الاقتصادية، فقد كان الاستقبال وسيلة للتكافل بين النساء، إذ يتحول أحياناً إلى “جمعية نسوانية” تضع فيها كل سيدة مبلغاً من المال، ثم تأخذه واحدة منهن في كل مرة، لتستفيد به في شراء حاجيات للبيت أو تجهيز بناتها للزواج. هذه الفكرة البسيطة ساعدت الكثير من العائلات وقرّبت القلوب أكثر.

 

وللاستقبال مواسم خاصة أيضاً، فمع أنه كان عادة شهرية، إلا أن وتيرته كانت تزداد قبل رمضان مثلاً لتبادل وصفات الحلويات الرمضانية، أو قبل العيد لتحضير المؤن، أو بعد مواسم الزيتون والعنب لعرض منتجات البيت من زيت وزبيب ودبس. فكان الاستقبال مرتبطاً بدورة الحياة وبالمواسم الزراعية والغذائية، مما يعكس عمق ارتباط الناس بالطبيعة وبإيقاعها.

 

ومع مرور الزمن، وتغير أنماط الحياة، ودخول النساء عالم التعليم والعمل، بدأ الاستقبال يتراجع شيئاً فشيئاً. لم تعد الجلسات ممكنة بالوتيرة القديمة، لكن الذكرى بقيت في القلوب، رمزاً لعصر كان فيه التواصل وجهاً لوجه، وكانت الجيرة والصداقة روابط صافية صادقة.

 

 إن الحديث عن “استقبال النسوان” ليس مجرد وصف لعادة اجتماعية قديمة، بل هو تذكير بأهمية اللقاء والتواصل والتضامن. نعم، كان فيه بعض التفاخر وربما النميمة، لكنه كان قبل كل شيء مناسبة للفرح، لبناء العلاقات، ولتعزيز الشعور بالانتماء إلى جماعة واحدة. فلنستحضر من هذه العادة دروسها في الألفة والمحبة، ولنحاول أن نعيد شيئاً منها في حياتنا، ولو بلقاء عائلي أو سهرة شهرية مع الأصدقاء. فالمجتمع لا ينهض إلا حين يبقى متماسكاً ومتواصلاً.

 

https://www.facebook.com/share/v/1BNg4uMsA3/

 

الاسبوع القادم نلتقي مع عادة جديدة

 

 

Show More

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button